الأحد، 22 مايو 2011

الخط العربي في الموصل اواخر العهد العثماني

د. عامر عبد الله الجميلي
كلية الآثار / جامعة الموصل
(شهدت حركة الخط العربي في الموصل في العهد العثماني الاخير فترات من التأرجح بين التأثير والتأثر والخمول والنشاط والتراجع احياناً ، والذي لا شك فيه ان للاهتمام العثماني اثر في اهتمام الموصل بفن الخط ) ، بحكم موقع الموصل الجغرافي القريب من العاصمة العثمانية والذي سهل وصول المؤثرات الحضارية والثقافية اليها اسرع واعمق من وصولها الى الولايات الأكثر بعداً . ومع ذلك لا نكاد نعثر على أية نتاجات فنية وابداعية ذات قيمة في هذا المجال خلال القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين (السادس عشر والسابع عشر الميلاديين) أي في بدايات السيطرة العثمانية ولكن نقطة التحول تبدا في فترة الحكم العثماني المحلي ، أي (الفترة الجليلية) فقد شهدت هذه الفترة ازدهاراً ملحوضاً في الخط العربي واحتضن الولاة الجليليون الخطاطين والنسّاخ وكان لذلك اثر كبير في ظهور نهضة خطية فريدة مهدت فيما بعد لبروز نخبة من الخطاطين الموصليين : كخليل بن عمر خداده الموصلي ت (1163هـ/1749م)والخطاط صالح السعدي الموصلي ت (1245هـ/1829م) وغيرهما وعلى امتداد الفترات اللاحقة .

Abstract
The Arabic calligraphy in Mosul during the late Ottoman era
By : Dr . Amir A.AL – Jumaili
College of Archaeology
University of mosul

The Arabic calligraphy movement in Mosul during the late Ottoman era fluctuated between affecting , getting affected , being inactive or recessive . It was beyond doubt that the Ottoman interest had an impact on the Mosulis love of calligraphy due to the fact that Mosul very near to the Ottoman capital which facilitated the transition of civilizational and cultural effects to Mosul in a deeper and quicker way than the other further districts . Nevertheless , it is hard to find any significant artistic or creative work in this demean during the tenth and eleventh centuries A.H. (16th and 17th centuries A.D.) i.e., at the dawn of the Ottoman rule however , the turning point starts with the local Ottoman rule (the Jalili era), which . witnessed aremarkade boom in Arabic calligraphy and the Jalili rulers patronized the calligraphers and scribes , which has an enormous effect on the eise of a unique calligraphical renaissance that paved the way for the emergence of a number of Mosuli calligrapher like : khalil bin Omer Khudad Al –Mosuli (died 1163 H.A., 1749 A.D.), and Salih Al –Saadi AL-Mosuli (died 1245 A.H, 1829 A.D.)the chain of Mosuli calligraphers did not end with this group at the end of the thirteenth century A.H. there were more and calligraphers such as : Sheikh Mohammad Amin AL- Omari and Abdurahman Chlabi AL-Sayigh (died 1294 A.H, 1877 A.D. ) Towards the end of the thirteenth century and the beginning of the fourteenth century A.H. , Arabic calligraphy witnessed a slight reteat due to the political situation and developments in the Ottoman state such as the coup of 1908 A.D. , the overthrow of Sultan Abdulhameed, and the starvation of Mosul between 1917-1918 A.D. all of these thing had an impact on the standard of calligraphy in the city . Strnger still , the news of Mosul calligrapgy in the early decades of that century were very scarce and it can be said that the generation Mosuli calligraphers of that century inherited from the generation that preceded them in imitating the poor stereotypical performance and style of the rules of calligraphy and mastering them . These calligraphers not only put the work down in books and plates , but also on building . If we look at the inscriptions on the walls of Mosuli mosques , schools , houses , graves and caraving works on wooden doors and articles , which belong to that era , we shall see the powerful calligraphical accomplishment of these more .

مقدمة:
شهدت حركة الخط العربي في الموصل في العهد العثماني الاخير فترات من التأرجح بين التأثير والتأثر والخمول والنشاط والتراجع احياناً ، والذي لا شك فيه ان للاهتمام العثماني اثر في اهتمام الموصل بفن الخط ، وذلك لأن التأثير العثماني الشامل ، المباشر وغير المباشر، وفي البيئات الاجتماعيات المجاورة ، وبخاصة تلك الخاضعة للسيطرة العثمانية كان واضحاً وملموساً بفعل الدور الحضاري العثماني وتقادمه الزمني الممتد ستة قرون ، فضلاً على ان موقع الموصل الجغرافي القريب من العاصمة العثمانية سهل وصول المؤثرات الحضارية والثقافية اليها اسرع واعمق من وصولها الى الولايات الأكثر بعداً . ولكن علاقة التأثير والتأثر الناشة بين العثمانيين والموصل في مجال الاهتمام بفن الخط العربي لم تبدو
واضحة في مستهل السيطرة العثمانية ، الى حد جعل الاهتمام العثماني عامل التأثير الحاسم والاكبر في تحفيز النخبة المثقفة الموصلية على الاهتمام بالخط : ثقافة واداءا وفنا ، ولعل السبب في ذلك هو ان هذا الاهتمام العثماني كان موجهاً بالدرجة الاساس الى العاصمة ، ولم يمتد افقياً الى الولايات التابعة كما ان استقدام الخطاطين من هذه الولايات الى العاصمة ادى الى امتصاص قدرتها وامكاناتها الابداعية لتعزيز مركز العاصمة في هذا المجال .
وكان للاهتمام العثماني بالخط انعكاس سلبي على مستوى فن الخط في الموصل ، وبخاصة في بدايات السيطرة العثمانية ، اذ لا نكاد نعثر على اية نتاجات فنية وابداعية ذات قيمة في هذا المجال خلال القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين (السادس عشر والسابع عشر الميلاديين) . وان كان هذا عاملاً مباشراً من عوامل انحسار اهتمام الموصل بفن الخط ، فهناك عوامل اخرى ، غير مباشرة تتمثل في الاحداث العسكرية والسياسية والكوارث الطبيعية التي مرت بالمدينة . ولكن نقطة التحول تبدأ في فترة الحكم العثماني – المحلي أي (الفترة الجليلية) فقد شهدت هذه الفترة ازدهاراً ملحوضاً حيث عادت للموصل شخصيتها المستقلة بعد نجاح الموصليين في تولي الحكم طيلة حقبة تزيد على المائة عام ، امتدت من عام 1726 وحتى عام 1834م ، احتفظت خلالها الموصل بخصوصية محلية واضحة المعالم على الصعيد الثقافي والاجتماعي والعمراني والسياسي والاقتصادي ، فأصبحت اللغة العربية هي لغة الدوائر الرسمية والمؤسسات التعليمية واتسعت حركة التأليف باللغة العربية (1) مما انعكس ذلك كله بطبيعة الحال على الخط العربي ، واحتضن الولاة الجليليون الخطاطين والنسّاخ ، ونتيجة لذلك الاهتمام تأكد عمق احساس الخطاط الموصلي بشخصيته الفنية العربية وبدأ يسعى لتطور قابلياته الادائية في الخط العربي . وكان ذلك كله أثر كبير في ظهور نهضة خطية فريدة ، مهدت فيما بعد لبروز نخبة من الخطاطين الموصليين وهكذا استعادت المدينة مكانتها الفنية السابقة التي عرفت بها في العهد الاتابكي وريادتها في الخط فبرز عدد كبير من الخطاطين المتفاوتين في جودة الخط ، الفنية والثقافية في الموصل آنذاك وتركوا لنا اثارا مهمة في هذا الفن ولعل من اشهر رواد الخط العربي في الموصل خلال القرن الثاني عشر الهجري كان : خليل بن عمر خدادة الموصلي الذي لم يصل احد من مترجميه الى سنة ولادته ولكنهم رجحوا سنة وفاته بعام (1163هـ/1749م) ، فقد عرف بكونه واحد من ابرز الخطاطين المجيدين في زمانه ، فقد اتصف بالنضوج والتفوق الخطي وقد اجاد تحسين الخط بما لم يكن مثله في زمانه ونماذج خطه خير شاهد على ذلك (2) ، فصار المثل في جودة الخط وحسنه ونفاسته بهذا الرجل الذي اجمع مترجموه على تلقيبه بلقب " ياقوت زمانه وابن مقلة اوانه " وانه " اتاه الله من حسن الخط وجودة الكتابة وتصوير الحرف ما لايدرك ولا يلحق ولايأتي الزمان بمثله (3) " لانه "الكاتب الماهر والخطاط الشاعر الذي تنتهي اليه الكتابة والخط
في زمانه "(4) وقد برع في الخطوط المنسوبة كالثلث والنسخ والريحاني ، وفضلاً عن كونه فقد كان اديباً بارعاً وشاعراً موهوباً ، له "ادب جميل وانشاء بديع" تجلى ذلك في قصائده المطولة والقصيرة ، التي نظمها في ظل تجربة الهجوم الفارسي المقيت الذي قام به نادرشاه على الموصل سنة (1156هـ/1743م) ، وخصوصاً في مدح والي الموصل حسين باشا الجليلي (1108-1171هـ/1696-1757م) لوقفته الشجاعة في التصدي لهذه الهجمة (5). ومن الخطاطين في هذه الفترة ايضاً : (الخطاط نعمان الذكائي) .هو الخطاط الشهير درويش نعمان الذكائي بن محمد افندي بن المتصرف القادري الحنفي البغدادي اصله من الموصل ولكنه نشأ ببغداد ودرس على علمائها . وقد اخذ فنون الخط العربي عن الخطاط محمد امين الانسي (ت 1182هـ/1768م) ونال الاجازة منه سنة (1179هـ/1765م) . كما نال الاجازة بفنون الخط من السيد احمد رسمي سنة (1199هـ/1784م) ، وكذلك من السيد محمد دستجي زادة في السنة نفسها ، واخيراً من السيد محمد النوري (6). له اثار خطية كثيرة منها ابيات شعرية على باب مصلى جامع مرجان كتبها سنة (1200هـ/1785م) ، وله مجموعة كبيرة لدى احد افراد اسرته وقد اخذ الخط عنه وتخرج على يديه في بغداد خطاطون كثيرون ابرزهم الخطاط الكبير سفيان الوهبي (ت 1267هـ/1849م) ودرويش الفيضي (ت 1233هـ/1817م) وخلف اغا المصرف دار (ت 12789هـ/1860م) وغيرهم وقد توفي هذا الخطاط سنة (1227هـ/1812م) (7).
كذلك الخطاط ابو بكر الكاتب بن ابراهيم (ت 1164هـ/1750م) وهو كاتب جرى له القلم في خدمة نبي الله جرجيس عليه السلام بمرقده بالموصل (8)، والخطاط قاسم بن محمد حسن الموصلي الذي كان حسن الخط ، جيد التصوير(9) والخطاط عبدالله بن فخر الدين الاعرجي الحسيني (ت 1188هـ/1774م) : ولد في الموصل ، ونشأ فيها واخذ العلم عن شيوخها ، واتصل بخدمة ولاة الموصل وبغداد ، فصادف قبولاً لديهم فقربوه فشغل منصب كاتب ديوان الانشاء في بغداد وبقي في منصبه هذا حتى وفاته . ومع انصرافه الى العلم والادب والادارة السياسية كان خطاطاً بارعاً ومجيداً (10).
وكذلك الخطاط محمد بن ملا خليل الملقب بـ (حمو الكردي) الذي يثير الدهشة لكثرة نسخه للكتب بخط النسخ الجميل بين سنة (1167-1184هـ/1753-1770م) (11) ، وكان من اشهر ما كتب وزوّق كتاب (جامع الاصول في احاديث الرسول) في مجلدين بخط هو غاية في الجودة والاتقان ، على ورق حريري ، وجلد الكتاب محلى ومزخرف ، وحواشيه مرتبة بفنية خاصة(12) ومن الخطاطين ايضاً احمد العمري بن علي العمري ، وهو ناسخ كتاب (جاويدان خرد) لمسكويه سنة (1172هـ) (13) وجرجيس بن الملا محمد بن الملا حسين الذي كان خطاطاً مجوداً وهو خطيب جامع نبي الله يونس وله مصحفاً كتبه كله بخط المحقق سنة (1214هـ) (14) ومحمد صالح الواعظ الذي كان مشهوراً ايضاً بحسن الخط وله مصحفاً في ثلاثين ورقة حوت كل ورقة منه جزاء بلا زيادة ولا نقص(15) .
واذا ما انتقلنا الى مكانة الخط في الموصل خلال القرن الثالث عشر ورواده ، فنرى ان الاهتمام بهذا الفن ظل منذ بداية هذا القرن منتعشاً لدى الاوساط الثقافية والتعليمية الموصلية . وكان الاهتمام مدفوعاً بتأثير عوامل ذاتية تتصل يتأثير اعلام الخط البارزين كالخطاط صالح السعدي الذي تتلمذ له عدد غير قليل من خطاطي الموصل في هذا القرن كما تتصل بالاقبال الذاتي لبعض طلبة العلم في المدارس والجوامع ودور العلم الاخرى على تعلمه وعوامل موضوعية تتصل بواقع الموصل الحضاري وخاصة على الصعيد العلمي والثقافي والوعي القومي المتأثر بالنهضة العربية في مصر وبلاد الشام وآفاقها الثقافية في تحقيق الكتب والمخطوطات التراثية ، التاريخية والادبية ، العربية على اثر ظهور الطباعة في المشرق العربي . وقد لقيت هذه الافاق استجابة طيبة لدى النخبة المثقفة الموصلية وهو ما دفع الى انتعاش الواقع الثقافي عموماً وفي ظله انتعشت حركة استنساخ الكتب والعناية بالخط فناً واداة ووسيلة للرزق ، ما لبثت ان انحسرت على اثر ظهور الطباعة في الموصل في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي .
وعلى الرغم من التأثير المزدوج لظهور الطباعة في الموصل على يد الآباء الدومنيكان : الايجابي والثقافي والعلمي العام ، والسلبي المتمثل في تراجع الخط من خلال تضاؤل الحاجة عليه اداة وظيفية وجمالية معاً ، فقد ظهر خطاطون بارزون خلال هذا القرن ، تركوا اثاراً واضحة في مسيرة الخط الفنية والثقافية بفضل مستوياتهم الابداعية العالية في هذا الفن ، للتواصل سلسلة الخطاطين المواصلة (16).
ويمكن القول ان انتعاش الحركة الفنية للخط وظهور طبقة واسعة نسبياً من الخطاطين المواصلة في هذه الحقبة قد مهدا لظهور خطاط موصلي كان واحداً من ابرز خطاطي الموصل في هذا القرن ومن انبغ الخطاطين العرب والمسلمين في عصره اذ لم نقل انه اعظم خطاط عرفته الموصل في عصوره المتأخرة ، لا بل في العراق والاقطار العربية جميعها ، وليس ثمة من يضاهيه سوى الخطاطين العثمانيين العظام ، على حد قول استاذنا الفاضل يوسف ذنون(17) ، انه الخطاط صالح السعدي الموصلي (هو صالح تقي الدين افندي بن يحيى افندي بن يونس افندي بن يحيى بك المولود في الموصل قبل سنة (1192 هـ / 1778م) وكان يجيد جميع انواع الخطوط العربية من ثلث ونسخ وتعليق وغيرها بأسلوب متميز ، بل ذكر انه كان يخط بأثني عشر قلماً خطاً رائعاً ، (انظر الى نموذج من خطه والمرفق في ختام البحث ) وله موهبة فذة في تقليد خط ابن الشيخ (حمد الله الاماسي) والحافظ عثمان ، وكانت له مكانة مؤثرة في الخط والعلم والادب والشعر ليس بين علماء الموصل فحسب بل في بغداد ايضاً . والى جانب كون السعدي نابغة من نوابغ الخط خلال ذلك القرن ، فهو يتمتع بالمهارة في رسم الخط وبشدة ضبطه ودقة حروفه مع حسن خطه ، فقد كان ايضاً ملماً بثقافة الخط وادابه اللغوية والفنية . وليس ادل على ذلك من ارجوزته في (علم رسم الخط) – الاملاء – التي تناول فيها السعدي موضوعات عدة منها مايتصل بأصلاح اللسان ومنها ما يتصل بأدوات الكتابة وانواعها واسمائها ، كما يشار ايضاً الى انه كان عالماً كبيراً وشاعراً باللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية(18)وتوفي السعدي مقتولاً سنة (1245هـ/ 1829م) نتيجة للاضطرابات التي حدثت في الموصل في تلك السنة (19) وبعد السعدي ظهر خطاطون اخرون واغلبهم من تلاميذ السعدي لكن أي منهم لم يبلغ شأوه ، إلأ انهم قد حققوا مستويات عالية في هذا الفن ، ومنهم محمد الفهمي (1195-1250هـ / 1780- 1834م) والخطاط قاسم الحمدي وهو اخو الخطاط الكبير صالح السعدي (20)، وقد ولي كتابة ديوان الانشاء بعد السعدي ، وعنه اخذ الثقافة فكان اديباً وله ديوان شعر معروف منه نسخ كثيرة كتبها الحمدي بخطه الجميل النفيس ، كما هي عادته في خط اعماله الشعرية والنثرية لان قاسماً الحمدي كان خطاط مشهوداً له بجودة الخط واتقانه وحسنه وضبطه ، جعله ذلك كله من المبرزين في هذا الفن من المواصلة في هذه الحقبة وتوفي قاسم الحمدي سنة (1255هـ / 1839م) (21).
من الخطاطين في هذه الفترة ايضاً عبد الغفور الجلبي الذي اجيز بالخط سنة (1225هـ / 1810م) ، ثم اعقبهم طبقة واسعة من الخطاطين يأتي في مقدمتهم تلاميذ السعدي امثال عبد الرحمن فهمي وحسين الجدي ومعاصرهما محمد درويش البروشكي ، الذي لا يعرف تاريخ مولده ، ولكن المعروف عنه انه كان رجلاًَ مشهود بالورع والتقوى وكان لشدة ورعه لا يأخذ ثمناً عن كتاباته واعماله الخطية ، لأنه يراها عملاً دائماً في سبيل الله وكان خطاطاً مجيداً ومتمكناً من دقائق الخط الفنية والتشكيلية . وتشير اعماله الخطية (22)، وخاصة في مجال الخط الثلث ، الى انه كان واحداً من ابرز خطاطي الموصل في حينه ، وقد كان تلميذاً للخطاط عباس الصبري الامدي (ت بعد 1286هـ / 1869م) وقد تتلمذ عليه كثير من الناس في الموصل منهم : امين افندي الخطاط (ت بعد 1298 هـ / 1879م) وقد كان يكتب على المرمر(23) .
ولم تنقطع سلسلة الخطاطين الموصليين في نهاية القرن الثالث عشر الهجري بهذه النخبة ، فقد تواصل بروز خطاطين اخرين لا يقلون جودة واتقاناً عمن سبقوهم ولكن حظهم في تحقيق مستوى ابداعي فني ناضج لم يرق الى درجة اداء افذاذ الخط المواصلة كالسعدي مثلاً . وربما يعود ذلك الى ما قد يلاحظ على مسار الخط في تلك الحقبة من غلبة صورة اداء تقليدية متشابه فقيرة غالباً في ضبط قواعد الخط واصوله العلمية والفنية ، وان كان فيها شئ من الفن والابداع. (24)
ومن هؤلاء الخطاطين الاخرين ، الشيخ محمد امين العمري المولود بالموصل عام (1223هـ-1808م) وكان خطاطاً مجيداً فضلاً عن كونه شاعراً ، رحل الى بغداد وآلت اليه كتابة ديوان الانشاء وخدم في مناصب رسمية أخرى وتوفي ببغداد عام (1288هـ-1871) . والشاعر والخطاط عبد الغفار الاخرس (1220هـ-1291 / 1805-1874م) الذي عرف بجودة خطه وحسنه ، ومحمد صديق الجليلي (1231-1290هـ / 1815-1873م) ومحمد سعيد الجليلي (1258-1282هـ / 1842-1865م)وعبد الرحمن جلبي الصائغ (ت 1294هـ / 1877م) ومصطفى الشربتجي في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، وهؤلاء وإن لم يحققوا مستوى السعدي ، إلا انهم يشكلون صفحة ناصعة في مسيرة الخط في هذه المدينة ، فقد حملوا الرسالة وبلّغوا الاجيال التالية الامانة الفنية ويلاحظ ان مسار الخط في زمانهم غلبت عليه صورة متشابهة فيها الكثير من الفن والابداع ولكنها على الاغلب فقيرة في القواعد والضبط وقد ورث الجيل التالي عنهم هذه المميزات في بداية القرن الرابع عشر الهجري(25) وعرف منهم : مصطفى الصائغ النقاش الذي كان مشهوراً بحسن الخط ومن المولعين بجمع الكتب الخطية ومن خطوطه نسخه وتقليده لنسخة اصلية على الورق لترجمة عربية لكتاب (دسقوريدس) الذي كان وقفا للمدرسة المحمدية في جامع الزيواني وهذا الكتاب خاص في تصوير النباتات والحيوانات وخواصه واتم هذا الخطاط تقليد الكتاب بناءاً على طلب (نقولا سيوفي ) نائب قنصل فرنسا في الموصل في الفترة من (1889-1893م) وجاءت النسخة مطابقة للأصل ، الامر الذي جعل يونس بك بن عبد الرحمن باشا الجليلي الذي كان متولّي جامع الزيواني يقتنع بالنسخة المقلدة بعد ان رغّب (سيوفي) يونس بك بها ، اما الخطاط مصطفى الصائغ فقد كافئه قنصل فرنسا بمبلغ الف وخمسمائة قرشاً بعد ان اخذ النسخة الاصلية القديمة(26)كما ظهر في في هذه الفترة الخطاط عبدالله الصائغ (ت1309هـ/ 1891م) أما في نهايات القرن الثالث عشر وبدايات القرن الرابع عشر الهجريين فقد شهد الخط تراجعاً قليلاً بسبب الاحداث السياسية والتطورات التي حدثت في الدولة العثمانية كانقلاب عام (1908) وعزل السلطان عبد الحميد فضلاً عن سنوات القحط (مجاعة الموصل) التي مرت بالموصل بين عامي (1917-1918م) وغيرها ، كل ذلك انعكس على مستوى الخط في المدينة واللافت للنظر ان اخبار الخط في الموصل في العقود الاولى من هذا القرن كانت يتيمة ومفردة ومتفرقة وهي بذلك مجرد أخبار لا تعكس الاهتمام بهذا الفن إلا على النطاق الفردي والذاتي لبعض المعنيين الذي كان لهم اهتمام به على انحاء وغايات شتى من الهواية والفن والثقافة والوسيلة التجارية للرزق . وبذلك فالامر هنا لا يرقي الى ان يكون اهتماماً ثقافياً او علمياً واضحاً . ويمكن القول ان جيل هذا القرن من الخطاطين المواصلة كان وريثاً للجيل الذي سبقه في تقليد الصورة الواحدة المتشابهة للاداء والاسلوب الفقيرين في قواعد فن الخط وضبطها ، اذ كان اغلب المشتغلين بالخط والكتابة من افراد هذا الجيل نسّاخين جيّدين اكثر من كونهم خطاطين مجيدين ضالعين في فن الخط ، ولكن لا يمكن أن نعدم وجود خطاطين ذوي دراية ودربة وممارسة في العقدين الاوليين – في الاقل في بداية القرن الرابع عشر منه(27) وقد برز من اهتم بالخط وعمل فيه جهده العلمي والفني امثال محمد طاهر بن الخطاط عبد الله الصائغ الذي مر ذكره وكذلك (حفيده) أحمد ،وحسن حسين الرمضاني(ت1325هـ/ 1907م) ومحمدعلي الفخري (1301-1332هـ/1883-1913م) ومحمود حمّوشي(ت1335هـ /1916م) وصالح افندي الأسمى (ت 1338هـ / 1919م) (28) وقد عاصرهم توما قندلا وبهنام لويس ، وظهر في هذه الحقبة ايضاً مهتمّون اخرون بالخط عرفوا به على المستوى الشعبي والتجاري ، ومنهم ملا محمد البيغمبرلي الذي كتب مصحفاً في ثلاثين جزءاً أوقفه في جامع نبي الله يونس وخير الدين بن امين افندي الخطاط وصالح الرفاعي والحكّاك والخطاط المعروف ملاّ عبد (1351هـ / 1932م) الذي مارس الخط منذ بدايات القرن الرابع عشر ، واشتهر في الموصل على انه واحد من ابرز خطاطي المدينة المجيدين والبارعين في خط الالواح الفنية ، وخصوصاً في خطوط الثلث والتعليق والرقعة ، ولكن اداءه في خط النسخ يبدو ضعيفاً ، كما عرف خط الطغراء وبخاصة في عمل الاختام (الرسمية وغير الرسمية) التي اشتغل بها منذ ايام الدولة العثمانية حتى وفاته إذ ان بعض هذه الاختام التي خطها وعملها يعود تاريخه الى سنة (1323هـ / 1905م) . ومن صنعة الاختام هذه لحقه لقب (الحكّاك) الذي هو صانع الاختام . ولهذا الخطاط آثاراً خطّية مشهورة على الرخام ورقائق الالمنيوم ما تزال حتى اليوم منتشرة في كثير من جوامع الموصل ، ولعل ابرزها كتاباته على الرخام في جامع العباس المؤرخة في سنة (1346هـ / 1927م) . ورغم كثرة الخطاطين في هذه الفترة إلا ان اثارهم في الخط محدودة وما ذلك عن ضعف ولكن طبيعة التبدلات والتحولات السريعة التي تمت في بدايات القرن الرابع عشر الهجري والاحداث المتلاحقة اثرت سلباً على مسيرة الخط ، فقلّ شأنه وتحدد الاهتمام به (29).
هذا ولم يودع الخطاطون آنذاك خطوطهم في سطور الكتب وبطون خزاناتها أو على المرقّعات الخطية فحسب وانما خلدوها على العمائر كذلك ، ومن يطّلع على خطوط المساجد والمدارس وبعض البيوتات الموصلية ناهيك عن شواهد القبور والحفر على الابواب والاثاث الخشبية التي تعود الى تلك الفترة والتي تؤرخ لبناء او تجديد او وفاة ، يرى قوة الاداء الخطي لاولئك الخطاطين فضلاً عن جودة التنفيذ في الحفر على الرخام . ومعظم هذه الخطوط جاءت غفلاً من كتابة اسماء محرريها ، وقد قام وكيل قنصل فرنسا بالموصل (1889-1893م) المدعو (سيوفي) بجمع بعض منها في كتابه(مجموع الكتابات المحررة على ابنية الموصل)(30). هذا وان من يراجع قوائم المخطوطات التي دونها داود الجلبي في كتابه (مخطوطات الموصل) والمخطوطات التي تضمنها مكتبة الاوقاف العامة في الموصل(31) فضلاً عما تضمه مكتبات بعض الاسر الموصلية بين ثناياها من مخطوطات ، يقف على المدى البعيد والمستوى الفني الرائع التي نهضت به تلك الاسماء اللامعة في مجال الخط والنسخ إبان تلك الفترة .

لوحة جامعة لخطوط (المحقق والثلث والنسخ و التعليق والشكسته وجلي الديواني

والديواني والسياقة والرقاع والاجازة والنسخ المقرمط) أبدعها الخطاط الكبير صالح السعدي سنة 1231 هـ
صفحة من مخطوط (الحصن الحصين) الذي كتبه الخطاط خليل خداده بخط النسخ سنة 1151هـ
نموذج من خط الخطاط قاسم الحمدي
نموذج لميزان الحروف بخط الثلث ، للخطاط الموصلي محمد درويش البرشكي كتبه سنة 1270هـ
نموذج بخطيّ الثلث والنسخ للخطاط نعمان الذكائي

الهوامش :
1. عن نظام التعليم في المعهد الجليلي ، ينظر : ابراهيم خليل احمد : حركة التربية والتعليم ، موسوعة الموصل الحضارية ، مج 4 ، دار الكتب للطباعة والنشر ، جامعة الموصل ، 1992 ، ص333 .
2. ذنون ، يوسف : الموصل والخط العربي – عرض وتمهيد – مجلة الربيع ، الموصل ، عدد خاص صدر لمناسبة مهرجان الربيع القطري الثاني – الرابع عشر بالموصل ، 1982 ، ص66 .
3. العمري ، محمد امين بن خير الخطيب : منهل الاولياء ومشرب الاصفياء من سادات الموصل الحدباء (جزءان) ، حققه ونشره : سعيد الديوه جي ، مطبعة الجمهورية ، 1967 ، ج1، ص301 .
4. المرادي ، محمد خليل : سلك الدرر في اعيان القرن الثاني عشر ، مصر ، 1301هـ ،ج2 ، ص194 .
5. حنش ، ادهام محمد : الخط العربي في الموصل ، موسوعة الموصل الحضارية ، مج 4-5 ، دار الكتب للطباعة والنشر ن جامعة الموصل ، 1992 ، ص354 – 355 .
6. وبعض هذه الاجازات محفوظة في المركز الوطني للمخطوطات في بغداد .
7. حنش ، المرجع السابق ، مج 4 ، ص355 .
8. الغلامي ، محمد بن مصطفى : شمّامة العنبر والزهر المعنبر ، تحقيق : الدكتور سليم النعيمي ، مطبعة المجمع العلمي العراقي ، بغداد ، 1977 ، ص319 .
9. العمري ، محمد امين : المرجع السابق ،ج1 ، ص308العمري ، محمد امين : المرجع السابق ،ج1 ، ص308 .
10. حنش ، المرجع السابق ، ص356 .
11. ذنون ، المرجع السابق ، ص66 .
12. الديوه جي ، سعيد : اعلام الصنّاع المواصلة ، مطبعة الجمهور ، الموصل ، 1970 ، ص214 .
13. الجلبي ، داؤد : مخطوطات الموصل ، مطبعة الفرات ، 1927 ، ص 30 .
14. المرجع نفسه ، ص167 .
15. المرجع نفسه ، 183 .
16. حنش ، المرجع السابق ، ص356-357 .
17. ذنون ، المرجع السابق ، ص66 .
18. للمزيد ، ينظر : الى ما كتبه هلال ناجي عنه في مجلة المورد ، مجلد 15 ، العدد 4 ، 1986 ، ص346 .
19. حنش ، المرجع السابق ، ص359 ، وينظر كذلك : رؤوف ، عماد عبد السلام : الموصل في العهد العثماني ، فترة الحكم المحلي ، النجف ، 1395 هـ / 1975 م ، ص187.
20. يلاحظ اختلاف لقبي الاخوين ويعزى ذلك اللقب الذي يمنح لهما عند حصولهما على الاجازة الدينية في القراءات وغالباً ما يمنحها الشيخ المجيز فهو اذا لقب ديني وليس نسبي .
21. حنش ، المرجع نفسه ، ص 360 .
22. يحرز مركز المخطوطات في بغداد عدداً منها ، كذلك يقتني الخطاط والباحث يوسف ذنون الموصلي عملين له .
23. ذنون ، المرجع السابق ، ص 66 .
24. حنش ، المرجع السابق ، ص360 .
25. ذنون ، المرجع السابق ، ص66 .
26. الجلبي ، المرجع السابق ، ص178-179 .
27. ذنون ، المرجع السابق ، ص 66 .
28. المرجع نفسه ، ص66 .
29. ذنّون ، المرجع السابق ،ص 67 .
30. الذي عنى بتحقيقه ونشره المرحوم سعيد الديوه جي بالموصل ، مطبعة شفيق ، بغداد ، 1956 – وأضاف اليه ملاحق ، مستدركاً بذلك ما فات سيوفي ان يجمعه ومصححاً بعض النصوص التي اخفق في قراءتها .
31. والتي قام بفهرستها السيد سالم عبد الرزاق ، فأنجزها بتسعة أجزاء ، للمزيد ينظر : سالم عبد الرزاق : فهرس مخطوطات مكتبة الاوقاف العامة بالموصل ، الموصل ، مؤسسة دار الكتب للطباعة ، 1975-1980
المصادر والمراجع :
1. ابراهيم خليل احمد : حركة التربية والتعليم ، موسوعة الموصل الحضارية ، مج4 ، دار الكتب للطباعة والنشر ، جامعة الموصل ، 1992.
2. ادهام محمد حنش : الخط العربي في الموصل ، موسوعة الموصل الحضارية ، مج 4-5 ، دار الكتب للطباعة والنشر ، جامعة الموصل ، 1992.
3. الجلبي ، داؤد : مخطوطات الموصل مطبعة الفرات ، بغداد ،1927 .
4. الديوه جي ، سعيد : اعلام الصنّاع المواصلة ، مطبعة الجمهور ، الموصل ، 1970.
5. سالم عبد الرزاق : فهرس مخطوطات مكتبة الاوقاف العامة بالموصل ، الموصل ، مؤسسة دار الكتب للطباعة ، 1975-1980.
6. سيوفي ، نقولا : مجموعة الكتابات المحررة على ابنية الموصل ، عني بنشره وتحقيقه : سعيد الديوه جي بالموصل ، مطبعة شفيق ، بغداد ، 1956 .
7. عماد عبد السلام : الموصل في العهد العثماني ، فترة الحكم المحلي ، النجف ، 19395هـ / 1975 .
8. العمري ، محمد امين بن خير الخطيب : منهل الاولياء ومشرب الاصفياء من سادات الموصل الحدباء (جزءان) ، حققه ونشره : سعيد الديوه جي ، مطبعة الجمهورية ، 1967 ، ج1.
9. الغلامي ، محمد بن مصطفى : شمامة العنبر والزهر المعنبر ، تحقيق : الدكتور سليم النعيمي ، مطبعة المجمع العلمي العراقي ، بغداد ، 1977.
10. المرادي ، محمد خليل : سلك الدرر في اعيان القرن الثاني عشر ، مصر ، 1301هـ ، ج2.
11. هلال ناجي ، وزهير زاهد : ارجوزة في علم رسم الخط (تحقيق) ، مجلة المورد ، مج15 ، العدد 4 ، 1986.
12. يوسف ذنّون : الموصل والخط العربي – عرض وتمهيد – مجلة الربيع ، الموصل، عدد خاص صدر لمناسبة مهرجان الربيع القطري الثاني – الرابع عشر بالموصل ، 1982.

هناك تعليقان (2):